تُعد نظرية “عدم قابلية تقسيم القضايا” (Issue Indivisibility) إحدى النظريات البارزة في تحليل الصراعات، وتشير إلى أن بعض القضايا تُعتبر “جوهرية” بالنسبة لأطراف النزاع، بحيث لا يمكن التوصل بشأنها إلى حلول وسط أو تسويات، وهو ما يُفضي غالبًا إلى تعثّر المفاوضات، وتفاقم النزاع، وإطالة أمده.
في السياق الشرق أوسطي، يُعبّر عن هذه الفكرة إعلاميًا بمصطلحات مثل “وحدة المسارات“ أو “وحدة ساحات الصراع“. وإذا أردنا تطبيق هذه النظرية على حالة روجافا في صراعها مع تركيا (خصوصًا في مناطق عفرين، سريكانيه، وكري سبي)، فيمكن القول إن كلا الطرفين يتمسكان بمواقف تُصنّف كـ”قضايا غير قابلة للتقسيم”.
بالنسبة إلى تركيا، تُعد روجافا تهديدًا وجوديًا نابعًا من هويتها القومية الكردية، وارتباطها الإيديولوجي والتنظيمي (بحسب الزعم التركي) بالحركة الكردية داخل تركيا. ومن هذا المنظور، ترى أن صراعها مع روجافا ليس سوى امتداد لصراعها الأوسع مع الحركة الكردية في الداخل التركي، وبالتالي فهو صراع لا يقبل التجزئة.
في المقابل، تنطلق العديد من قيادات روجافا بتكثيف خطاب سياسي يصرّ على وحدة الساحات مع الحركة الكردية في تركيا (باكور)، بوصفها مسألة وفاء ونضال مشترك، مما يجعلها من جانبها تعتبر هذا الترابط جزءًا جوهريًا من قضيتها. وعليه، فإن موقفها من تركيا—سواء بالمواجهة أو التهدئة—يُبنى على موقف الحركة الكردية التركية من الدولة التركية.
هذه المقاربة تصبّ في مصلحة الرواية الرسمية التركية، التي تدّعي أن حربها ضد روجافا ليست سوى استكمال لحربها ضد “الإرهاب”، والمقصود هنا الحركة الكردية التركية. وبهذا تُحوِّل تركيا الصراع مع روجافا إلى قضية داخلية تُخضعها لمعادلاتها الأمنية والسياسية الوطنية.
وهذه النقطة تحديدًا تُضيّق من هامش الدبلوماسية أمام الطرفين في آنٍ واحد. فرَوجافا تفتقر إلى المرونة في التحرك الدبلوماسي، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، كما أنها تفقد القدرة على التفاوض المستقل مع تركيا. وفي المقابل، تتعامل تركيا هذا الوضع بعقلية انعزالية، فبدلًا من البحث عن حل تفاوضي مباشر أو غير مباشر مع روجافا، تلجأ إلى الخيار الأسهل بالنسبة لها: تجاهل روجافا تمامًا، والسعي إلى معالجة المسألة من داخل تركيا نفسها، بوصفها “قضية كردية داخلية”.
هذا الموقف يتجلى بوضوح في التصريحات التركية التي تطالب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بإلقاء سلاحها بناءً على ما يجري في مسار المباحثات مع الحركة الكردية داخل تركيا، وكأن أنقرة تقول: ” ما دمتم تعتبرون أنفسكم جزءًا لا يتجزأ من هذه الحركة، فإن كل ما يتم التوصل إليه هنا يُعد ملزمًا لكم أيضًا”.
ويتكرس هذا المنطق حينما تتحدث تركيا، بشكل متكرر، نيابةً عن الحكومة السورية المؤقتة في كل ما يتعلق بشرق الفرات، روجافا، قسد، والإدارة الذاتية، في الوقت الذي لا يُفسح فيه أي مجال لدمشق كي تعبّر عن موقفها في هذا الملف. وبذلك، تُقصى روجافا من الفعل الدبلوماسي، كما تُقصى دمشق من حقها السيادي، فيما تُبقي تركيا زمام الخطاب بيدها وحدها.
لكن، هل لدى روجافا مطالب غير قابلة للتقسيم؟ الجواب هو نعم، ولكن يُشار إلى هذا النوع من القضايا في أدبيات تحليل الصراعات بمفهوم “indivisible demands”، أي المطالب التي لا يمكن التنازل عنها أو تجزئتها. وتُعد قضية إعادة المهجرين قسرًا إلى عفرين، سريكانيه، وكري سبي، وطرد الفصائل المسلحة الموالية لتركيا منها من أبرز هذه المطالب بالنسبة إلى روجافا. وأي مسار تفاوضي لا يتضمن معالجة هذه القضايا يُعتبر غير مكتمل من منظور الإدارة الذاتية.
هذه المطالب لا تمثل شرطًا أساسيًا للتفاوض مع تركيا فحسب، بل هي أيضًا حجر أساس في أي حوار محتمل مع الحكومة السورية المؤقتة تحت قيادة الجولاني. ورغم أن التمسك بهذه المطالب قد يؤدي إلى إطالة أمد الصراع أو المفاوضات، إلا أن الحفاظ عليها يخدم روجافا استراتيجيًا على المدى البعيد، ويعزز من شرعية خطابها السياسي والحقوقي.